فصل: تفسير الآيات رقم (2- 3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة الزخرف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم القول في نظائره ومواقعها قبل ذِكر القرآن وتنزيله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن على أن القرآن جَعله الله عَربياً واضحَ الدلالة فهو حقيق بأن يُصدّقوا به لو كانوا غير مكابرين، ولكنّهم بمكابرتهم كانوا كمن لا يعقلون‏.‏ فالقَسَم بالقرآن تنويه بشأنه وهو توكيد لما تضمنه جواب القَسَم إذ ليس القَسَم هنا برافع لتكذيب المنكرين إذ لا يصدّقون بأن المقسِم هو الله تعالى فإن المخاطَب بالقسم هم المنكرون بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ وتفريععِ ‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صفحاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 5‏]‏ عليه‏.‏ وتوكيدُ الجواب ب ‏(‏إنَّ‏)‏ زيادة توكيد للخَبَر أن القرآن من جعل الله‏.‏

وفي جَعل المقسَم به القرآن بوصف كونه مبيناً، وجَعْللِ جواب القسم أن الله جعله مُبيناً، تنويه خاص بالقرآن إذ جُعل المقسم به هو المقسم عليه، وهذا ضرب عزيز بديع لأنه يُومئ إلى أن المقسم على شأنه بلغ غاية الشرف فإذا أراد المقسِم أن يقسم على ثبوت شرف له لم يجد ما هو أوْلى بالقسم به للتناسب بين القَسَم والمقسم عليه‏.‏ وجعل صاحب «الكشاف» من قبيله قولَ أبي تمام‏:‏

وثَنَايَاككِ إِنها اغْرِيضُ *** وَلآللٍ تُؤْمٌ وبَرقٌ ومَيضُ

إذْ قدر الزمخشري جملة ‏(‏إنها اغريض‏)‏ جواب القسم وهو الذي تبعه عليه الطيبي والقزويني في شرحيهما «للكشاف»، وهو ما فسر به التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام، ولكن التفتزاني أبطل ذلك في شرح «الكشاف» وجعل جملة ‏(‏إنها اغريض‏)‏ استئنافاً أي اعتراضاً لبيان استحقاق ثناياها أن يُقسم بها، وجعل جواب القسم قوله بعد أبيات ثلاثة‏:‏

لَتَكَادْنَي غِمارٌ من الأحْ *** داث لمْ أدْرِ أيَّهُن أخوضُ

والنكت والخصوصيات الأدبية يَكفي فيها الاحتمال المقبول فإن قوله قبله‏:‏

وارتكاضضِ الكرى بعينيككِ في الن *** وم فنوناً وما بعيني غموض

يجوز أن يكون قَسَماً ثانِياً فيكون البيت جواباً له‏.‏

وإطلاق اسم الكتاب على القرآن باعتبار أن الله أنزله ليكتب وأنَّ الأمة مأمورون بكتابته وإن كان نزوله على الرّسول صلى الله عليه وسلم لفظاً غير مكتوب‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أنه سيكتب فى المصاحف، والمراد ب ‏{‏الكتاب‏}‏ ما نَزل من القرآن قبلَ هذه السورة وقد كتَبه كتَّاب الوحي‏.‏

وضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الكتاب‏}‏، أي إنا جعلنا الكتاب المبينَ قرآناً والجعل‏:‏ الإيجاد والتكوين، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه مقروء دون حضور كتاب فيقتضي أنه محفوظ في الصدور ولولا ذلك لما كانت فائدة للإخبار بأنه مقروء لأن كل كتاب صالح لأن يقرأ‏.‏ والإخبار عن الكتاب بأنه قرآن مبالغة في كون هذا الكتاب مقروءاً، أي ميسّراً لأنْ يُقرأ لقوله‏:‏ ‏{‏ولقد يسّرنا القرآن للذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّ علينا جمعَه وقُرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

فحصل بهذا الوصف أن الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم جامع لوصفين‏:‏ كونِه كتاباً، وكونه مقروءاً على ألسنة الأمة‏.‏

وهذا مما اختص به كتاب الإسلام‏.‏ و‏{‏عربياً‏}‏ نسبة إلى العرب، وإذ قد كان المنسوب كتاباً ومقروءاً فقد اقتضى أن نسبته إلى العرب نسبة الكلام واللّغةِ إلى أهلها، أي هو مما ينطق العرب بمِثل ألفاظه، وبأنواع تراكيبه‏.‏

وانتصب ‏{‏قرآناً‏}‏ على الحال من مفعول ‏{‏جعلناه‏}‏‏.‏

ومعنى جعله ‏{‏قرآناً عربياً‏}‏ تكوينه على ما كُونت عليه لغة العرب، وأن الله بباهر حكمتِه جعل هذا الكتاب قرآناً بلغة العرب لأنها أشرف اللّغات وأوْسعها دلالة على عديد المعاني، وأنزله بين أهل تلك اللّغة لأنهم أفهم لدقائقها، ولذلك اصطفى رسوله من أهل تلك اللّغة لتتظاهر وسائل الدلالة والفهم فيكونوا المبلغين مرادَ الله إلى الأمم‏.‏ وإذا كان هذا القرآن بهاته المثابة فلا يأبَى مِن قبوله إلا قوم مسرفون في الباطل بُعداءُ عن الإنصاف والرشد، ولكن الله أراد هديهم فلا يقطع عنهم ذكره حتى يتمّ مراده ويكمُل انتشار دينه فعليهم أن يراجعوا عقولهم ويتدبروا إخلاصهم فإن الله غير مُؤاخِذِهم بما سلف من إسرافهم إن هم ثَابُوا إلى رشدهم‏.‏

والمقصود بوصف الكتاب بأنه عربي غَرضان‏:‏ أحدهما التنويه بالقرآن، ومدحه بأنه منسوج على منوال أفصح لغة، وثانيهما التورّك على المعاندين من العرب حين لم يتأثروا بمعانيه بأنهم كمن يسمع كلاماً بلغة غير لغته، وهذا تأكيد لما تضمنه الحرفان المقطعان المفتتحة بهما السورة من معنى التحدّي بأن هذا كتاب بلغتكم وقد عجزتم عن الإتيان بمثله‏.‏

وحَرْف ‏(‏لعلّ‏)‏ مستعار لمعنى الإرادة وتقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ في أوائل سورة البقرة ‏(‏73‏)‏‏.‏

والعقل الفهم‏.‏ والغرض‏:‏ التعريضُ بأنهم أهملوا التدبر في هذا الكتاب وأن كماله في البيان والإفصاح نستأهل العناية بِه لا الإعراض عنه فقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ مشعر بأنهم لم يعقلوا‏.‏

والمعنى‏:‏ أنّا يسرنا فهمه عليكم لعلكم تعقلون فأعرضتم ولم تعقلوا معانيه، لأنه قد نزل مقدار عظيم لو تدبروه لعقلوا، فهذا الخبر مستعمل في التعريض على طريقة الكناية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏إنا جعلناه قرآناً عربياً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، فهو زيادة في الثناء على هذا الكتاب ثناء ثانياً للتنويه بشأنه رفعةً وإرشاداً‏.‏

و ‏{‏أمّ الكتاب‏}‏‏:‏ أصل الكتاب‏.‏‏:‏ والمراد ب ‏{‏أم الكتاب‏}‏ علمُ الله تعالى كما في قوله‏:‏ ‏{‏وعنده أمُّ الكتاب‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏39‏)‏، لأن الأمّ بمعنى الأصل والكتاب هنا بمعنى المكتوب، أي المحقق الموثق وهذا كناية عن الحق الذي لا يقبل التغيير لأنهم كانوا إذا أرادوا أن يحققوا عهداً على طول مدة كتبوه في صحيفة، قال الحارث بن حلزة‏:‏

حَذر الجَور والتطاخي وهل يَن *** قُض ما في المَهارق الأهواء

و‏{‏عليٌّ أصله المرتفع، وهو هنا مستعار لشرف الصفة وهي استعارة شائعة‏.‏

وحكيم‏:‏ أصله الذي الحكمة من صفات رأيه، فهو هنا مجاز لما يحوي الحكمة بما فيه من صلاح أحوال النفوس والقوانين المقيّمة لنظام الأمة‏.‏

ومعنى كون ذلك في علم الله‏:‏ أن الله عَلمه كذلك وما عَلِمه الله لا يقبل الشك‏.‏ ومعناه‏:‏ أن ما اشتمل عليه القرآن من المعاني هو من مراد الله وصدر عن علمه‏.‏ ويجوز أيضاً أن يفيد هذا شهادة بعلوّ القرآن وحكمته على حد قولهم في اليمين‏:‏ الله يعلم، وعَلِم الله‏.‏

وتأكيد الكلام ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لردّ إنكار المخاطبين إذ كذّبوا أن يكون القرآن موحًى به من الله‏.‏

ولدينا‏}‏ ظرف مستقر هو حال من ضمير ‏{‏إِنهُ‏}‏ أو من ‏{‏أم الكتاب‏}‏ والمقصود‏:‏ زيادة تحقيق الخبر وتشريف المخبر عنه‏.‏ وقرأ الجمهور في ‏{‏أم الكتاب‏}‏ بضمّ همزة ‏{‏أم‏}‏‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة ‏{‏إِم الكتاب‏}‏ في الوصل اتباعاً لكسرة ‏{‏في‏}‏، فلو وقف على ‏{‏في‏}‏ لم يكسر الهمزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري على جملة ‏{‏إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن‏.‏ فلما أريدت إعادة تذكيرهم وكانوا قد قدم إليهم من التذكير ما فيه هديهم لو تأملوا وتدبروا، وكانت إعادة التذكير لهم موسومة في نظرهم بقلة الجدوى بيّن لهم أن استمرار إعراضهم لا يكون سبباً في قطع الإرشاد عنهم لأن الله رحيم بهم مريد لصلاحهم لا يصده إسرافهم في الإنكار عن زيادة التقدم إليهم بالمواعظ والهَدي‏.‏

والاستفهام إنكاري، أي لا يجوز أن نضرب عنكم الذكر صفحاً من جراء إسرافكم‏.‏

والضرب حقيقته قرع جسم بآخر، وله إطلاقات أشهرها‏:‏ قرع البعير بعصا، وهو هنا مستعار لمعنى القطع والصرف أخذاً من قولهم‏:‏ ضَرَبَ الغرائبَ عن الحَوْضضِ، أي أطردَها وصرفها لأنها ليست لأهل الماء، فاستعاروا الضرب للصرف والطرد، وقال طرفة‏:‏

أضْرِبَ عنك الهمومَ طارقَها *** ضَرْبَك بالسَّيْففِ قَوْنَس الفَرَس

والذكر‏:‏ التذكير، والمراد به القرآن‏.‏

والصَّفح‏:‏ الإعراض بِصَفْح الوجه وهو جانبُه وهو أشد الإعراض عن الكلام لأنه يجْمع تركَ استماعه وتركَ النظر إلى المتكلم‏.‏

وانتصب ‏{‏صفحاً‏}‏ على النيابة عن الظرف، أي في مكان صَفْح، كما يقال‏:‏ ضَعْهُ جانباً، ويجوز أن يكون ‏{‏صفحاً‏}‏ مصدر صَفَح عن كذا، إذا أعرض، فينتصب على المفعول المطلق لبيان نوع الضرب بمعنى الصرف والإعراض‏.‏

والإسراف‏:‏ الإفراط والإكثار، وأغلب إطلاقه على الإكثار من الفعل الضائر‏.‏ ولذلك قيل «لا سرَف في الخير» والمقام دال على أنّهم أسرفوا في الإعراض عن القرآن‏.‏

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف ‏{‏إن كنتم‏}‏ بكسر همزة ‏{‏إنْ‏}‏ فتكون ‏{‏إنْ‏}‏ شرطية، ولما كان الغالب في استعمال ‏{‏إِنْ‏}‏ الشرطية أن تقع في الشرط الذي ليس متوَقعاً وقوعُه بخلاف ‏(‏إِذَا‏)‏ التي هي للشرط المتيقن وقوعه، فالإتْيَان ب ‏{‏إنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنْ كنتم قوماً مسرفين‏}‏ لقصد تنزيل المخاطبين المعلوم إسرافهم منزلة من يُشَك في إسرافه لأن توفر الأدلّة على صدق القرآن من شأنه أن يزيل إسرافهم وفي هذا ثقة بحقّيّة القرآن وضَرب من التوبيخ على إمعانهم في الإعراض عنه‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بفتح الهمزة على جعل ‏{‏أنْ‏}‏ مصدرية وتقديرِ لام التعليل محذوفاً، أي لأجل إسرافكُم، أي لا نترك تذكيركم بسبب كونكم مسرفين بل لا نزال نعيد التذكير رحمة بكم‏.‏

وإقحام ‏{‏قوماً‏}‏ قبل ‏{‏مسرفين‏}‏ للدلالة على أن هذا الإسراف صار طبعاً لهم وبه قِوام قوميتهم، كما قدمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآياتتٍ لقوممٍ يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏7‏)‏ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما ذكر إسرافهم في الإعراض عن الإصغاء لدعوة القرآن وأعقبه بكلام موجه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم تسلية عما يلاقيه منهم في خلال الإعراض من الأذى والاستهزاء بتذكيره بأن حاله في ذلك حال الرّسل من قبله وسنةُ الله في الأمم، ووعد للرّسول صلى الله عليه وسلم بالنصر على قومه بتذكيره بسنة الله في الأمم المكذّبة رسلَهم‏.‏ وجعل للتسلية المقام الأول من هذا الكلام بقرينة العدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏فأهلكنا أشد منهم‏}‏ كما سيأتي، ويتضمن ذلك تعريضاً بزجرهم عن إسرافهم في الإعراض عن النظر في القرآن‏.‏

فجملة ‏{‏وكم أرسلنا من نبيء‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏إنا جعلناه قرآناً عربياً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏ وما بعدها إلى هنا عطفَ القصة على القصة‏.‏

و ‏{‏كَم‏}‏ اسم دال على عدد كثير مُبهم، وموقع ‏{‏كم‏}‏ نصب بالمفعولية ل ‏{‏أرسلنا‏}‏، وهو ملتزَم تقديمه لأن أصله اسم استفهام فنقل من الاستفهام إلى الإخبار على سبيل الكناية‏.‏

وشاع استعماله في ذلك حتى صار الإخبار بالكثرة معنى من معاني ‏{‏كَم‏}‏‏.‏ والداعي إلى اجتلاب اسم العدد الكثير أن كثرة وقوع هذا الحكم أدخلُ في زجرهم عن مثله وأدخل في تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم وتحصيل صبره، لأن كثرة وقوعه تؤذن بأنه سنة لا تتخلف، وذلك أزجر وأسلى‏.‏

و ‏{‏الأولين‏}‏ جمع الأوَّل، وهو هنا مستعمل في معنى الماضين السابقين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ضَلّ قبلهم أكثر الأوَّلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 71‏]‏ فإنّ الذين أهلكوا قد انقرضوا بقطع النظر عمن عسى أن يكون خَلَفَهم من الأمم‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا كانوا به يستهزئون‏}‏ استثناء من أحوال، أي ما يأتيهم نبيء في حال من أحوالهم إلا يُقارن استهزاؤهم إتيان ذلك النبي إليهم‏.‏

وجملة ‏{‏وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الأولين‏}‏، وهذا الحال هو المقصود من الإخبار‏.‏ وجملة ‏{‏فأهلكنا أشد منهم بطشاً‏}‏ تفريع وتسبب عن جملة ‏{‏وكم أرسلنا من نبيء في الأولين‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏أشد منهم‏}‏ عائد إلى قوم مسرفين الذين تقدم خطابهم فعدل عن استرسال خطابهم إلى توجيهه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم لأن الغرض الأهم من هذا الكلام هو تسلية الرّسول ووعده بالنصر‏.‏ ويستتبع ذلك التعريضَ بالذين كذبوه فإنهم يبلغهم هذا الكلام كما تقدم‏.‏

ويظهر أن تغيير أسلوب الإضمار تبعاً لتغيير المواجهة بالكلام لا ينافي اعتبار الالتفات في الضمير لأن مناط الالتفات هو اتحاد مرجع الضميرين مع تأتِّي الاقتصار على طريقة الإضمار الأولى، وهل تغيير توجيه الكلام إلا تقوية لمقتضى نقل الإضمار، ولا تفوت النكتة التي تحصل من الالتفات وهي تجديد نشاط السامع بل تزداد قوة بازدياد مُقتضِياتها‏.‏

وكلام «الكشاف» ظاهر في أن نقل الضمير هنا التفات وعلى ذلك قرره شارحوه، ولكن العلامة التفتزاني قال‏:‏ ومِثل هذا ليس من الالتفات في شيء ا ه‏.‏

ولعله يرى أن اختلاف المواجهة بالكلام الواقع فيه الضّميران طريقة أخرى غير طريقة الالتفات، وكلام «الكشاف» فيه احتمال، وخصوصيات البلاغة واسعة الأطراف‏.‏ والذين هم أشد بطشاً مِن كفار مكّة‏:‏ هم الذين عُبر عنهم ب ‏{‏الأوَّلين‏}‏ ووصفوا بأنهم يستهزئون بمن يأتيهم من نَبيء‏.‏ وهذا ترتيب بديع في الإيجاز لأن قوله‏:‏ ‏{‏فأهلكنا أشد منهم بطشاً‏}‏ يقتضي كلاماً مطوياً تقديره‏:‏ فلا نعجز عن إهلاك هؤلاء المسرفين وهم أقل بطشاً‏.‏

وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأيّن من قريةٍ هي أشد قوةً من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والبطش‏:‏ الإضرار القويّ‏.‏

وانتصب ‏{‏بطشاً‏}‏ على التمييز لنسبة الأشدّيّة‏.‏

و ‏{‏مثل الأولين‏}‏ حالهم العجيبة‏.‏ ومعنى ‏{‏مضى‏}‏‏:‏ انقرض، أي ذهبوا عن بكرة أبيهم، فمُضِيُّ المثَل كناية عن استئصالهم لأن مُضي الأحوال يكون بمضي أصحابها، فهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقُطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وذكر ‏{‏الأولين‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لتقدم قوله‏:‏ ‏{‏في الأولين‏}‏‏.‏ ووجه إظهاره أن يكون الإخبار عنهم صريحاً وجارياً مجرَى المثَل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لما كان قوله‏:‏ ‏{‏وكم أرسلنا من نبيء في الأولين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 6‏]‏ موجهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم للتسلية والوعد بالنصر، عطف عليه خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بقوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ الآية، لقصد التعجيب من حال الذين كذّبوه فإنهم إنما كذبوه لأنه دعاهم إلى عبادة إله واحد ونبْذِ عبادة الأصنام، ورأوا ذلك عجباً مع أنهم يقرّون لله تعالى بأنّهُ خالق العوالم وما فيها‏.‏ وهل يستحق العبادةَ غيرُ خالق العابدين، ولأنّ الأصنام من جملة ما خلق الله في الأرض من حجارة، فلو سألهم الرّسول صلى الله عليه وسلم في محاجّته إياهم عن خالق الخلق لما استطاعوا غير الإقرار بأنه الله تعالى‏.‏

فجملة ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وكم أرسلنا من نبيء في الأولين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 6‏]‏ عطف الغرض، وهو انتقال إلى الاحتجاج على بطلان الإشراك بإقرارهم الضِمْنيّ‏:‏ أن أصنامهم خالية عَن صفة استحقاققِ أنْ تُعبد‏.‏ وتأكيد الكلام باللام الموطئة للقسم ولام الجواب ونون التوكيد لتحقيق أنهم يجيبون بذلك تنزيلاً لغير المتردد في الخبر منزلة المتردّد، وهذا التنزيل كناية عن جدارة حالتهم بالتعجيب من اختلال تفكيرهم وتناقض عقائدهم وإنّما فُرض الكشف عن عقيدتهم في صورة سؤالهم عن خالقهم للإشارة إلى أنهم غافلون عن ذلك في مجرى أحوالهم وأعمالهم ودعائهم حتى إذا سألهم السائل عن خالقهم لم يتريّثوا أن يجيبوا بأنه الله ثم يرجعون إلى شركهم‏.‏

وتاء الخطاب في سألتهم‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر سياق التسلية، أو يكون الخطاب لغير معيّن ليعمّ كل مخاطب يتصور منه أن يسألهم‏.‏

و ‏{‏العزيز العليم‏}‏ هو الله تعالى‏.‏ وليس ذكر الصفتين العليتين من مقول جوابهم وإنما حكي قولهم بالمعنى، أي ليقولن خلقهنّ الذي الصفتان من صفاته، وإنما هم يقولون‏:‏ خلقهن الله، كما حكي عنهم في سورة لقمان ‏(‏25‏)‏ و‏{‏لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنّ الله‏}‏ وذلك هو المستقرَى من كلامهم نثراً وشعراً في الجاهلية‏.‏ وإنما عُدل عن اسم العليّ إلى الصفتين زيادة في إفحامهم بأن الذي انصرفوا عن توحيده بالعبادة عزيز عليم، فهو الذي يجب أن يرجوه النّاس للشدائد لعزّته وأن يخلصوا له باطنهم لأنه لا يخفى عليه سرّهم، بخلاف شركائهم فإنها أذلّة لا تعلم، وإنهم لا ينازعون وصفه ب ‏{‏العزيز العليم‏}‏‏.‏

وتخصيص هاتين الصفتين بالذكر من بين بقية الصفات الإلهية لأنها مضادة لصفات الأصنام فإن الأصنام عاجزة عن دفع الأيدي‏.‏

والتقدير‏:‏ ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولُنّ الله، وإن سألتهم‏:‏ أهو العزيز العليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

هذا كلام موجه من الله تعالى، هو تخلّص من الاستدلال على تفرده بالإلهية بأنه المنفرد بخلق السماوات والأرض إلى الاستدلال بأنه المنفرد بإسداء النعم التي بها قِوام أوَدِ حياة الناس‏.‏ فالجملة استئناف حُذف منها المبتدأ، والتقدير‏:‏ هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً‏.‏ وهذا الاستئناف معترض بين جملة ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9‏]‏ الآية وجملةِ ‏{‏وجعلوا له من عباده جُزءاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏ الآية‏.‏

واسم الموصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هو الذي جعل لكم وهو من حذف المسند إليه الوارد على متابعة الاستعمال في تسمية السكاكي حيث تقدم الحديث عن الله تعالى فيما قبلَ هذه الجملة‏.‏ واجتلاب الموصول للاشتهار بمضمون الصلة فساوى الاسم العلم في الدلالة‏.‏

وذُكرت صلتان فيهما دلالة على الانفراد بالقدرة العظيمة وعلى النعمة عليهم، ولذلك أقحم لفظ ‏{‏لكم‏}‏ في الموضعين ولم يقل‏:‏ الذي جعل الأرض مهاداً وجعَل فيها سُبلاً كما في قوله‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 6، 7‏]‏ لأن ذلك مقام الاستدلال على منكري البعث، فسيق لهم الاستدلال بإنشاء المخلوقات العظيمة التي لا تُعدّ إعادة خلق الإنسان بالنسبة إليها شيئاً عجيباً‏.‏

ولم يكرر اسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏وجعل لكم فيها سبلاً‏}‏ لأن الصلتين تجتمعان في الجامع الخيالي إذ كلتاهما من أحوال الأرض فجعلهما كجَعْللِ واحد‏.‏ وضمائر الخطاب الأحد عشر الواقعة في الآيات الأربع من قوله‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم الأرض مهاداً‏}‏ إلى قوله ‏{‏مقرنين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 10 13‏]‏ ليست من قبيل الالتفات بل هي جارية على مقتضى الظاهر‏.‏

والمهاد‏:‏ اسم لشيء يمهد، أي يوطأ ويسهل لما يحلّ فيه، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لهم من جهنّم مهاد‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏41‏)‏‏.‏ ووجه الامتنان أنه جعل ظاهر الأرض منبسطاً وذلك الانبساط لنفع البشر الساكنين عليها‏.‏ وهذا لا ينافي أن جسم الأرض كروي كما هو ظاهر لأن كرويتها ليست منفعة للنّاس‏.‏ وقرأ عاصم مهداً‏}‏ بدون ألف بعد الهاء وهو مراد به المهاد‏.‏

والسُبل‏:‏ جمع سبيل، وهو الطريق، ويطلق السبيل على وسيلة الشيء كقوله ‏{‏يقولون هل إلى مردٍ من سبيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ويصح إرادة المعنيين هنا لأن في الأرض طرقاً يمكن سلوكها، وهي السهول وسفوح الجبال وشعابها، أي لم يجعل الأرض كلها جبالاً فيعسر على الماشين سلوكها، بل جعل فيها سبلاً سهلة وجعل جبالاً لحكمة أخرى ولأن الأرض صالحة لاتخاذ طرق مطروقة سابلة‏.‏

ومعنى جعْللِ الله تلك الطرق بهذا المعنى‏:‏ أنه جعل للنّاس معرفة السير في الأرض واتباع بعضهم آثار بعض حتى تتعبد الطرق لهم وتتسهل ويعلم السائر، أي تلك السبل يوصلُه إلى مقصده‏.‏

وفي تيسير وسائل السير في الأرض لطف عظيم لأن به تيسير التجمع والتعارف واجتلاب المنافع والاستعانة على دفع الغوائل والأضرار والسيرُ في الأرض قريباً أو بعيداً من أكبر مظاهر المدنِيَّة الإنسانية، ولأن الله جعل في الأرض معايش النّاس من النبات والثمر وورق الشجر والكمأة والفقع وهي وسائل العيش فهي سبل مجازية‏.‏ وتقدم نظير هذه الآية في سورة طه‏.‏

والاهتداء‏:‏ مطاوع هداه فاهتدى‏.‏ والهداية حقيقتها‏:‏ الدلالة على المكان المقصود، ومنه سمي الدال على الطرائق هادياً، وتطلق على تعريف الحقائق المطلوبة ومنه ‏{‏إنّا أنزلنا التوراة فيها هُدىً ونورٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ والمقصود هنا المعنى الثاني، أي رجاء حصول علمكم بوحدانية الله وبما يجب له، وتقدم في ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ومعنى الرجاء المستفاد من ‏(‏لعل‏)‏ استعارة تمثيلية تبعية، مُثِّل حال من كانت وسائل الشيء حاضرة لديه بحال من يُرجى لحصول المتوسل إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

انتقل من الاستدلال والامتنان بخلق الأرض إلى الاستدلال والامتنان بخلق وسائل العيش فيها، وهو ماء المطر الذي به تُنبت الأرض ما يصلح لاقتيات الناس‏.‏

وأعيد اسم الموصول للاهتمام بهذه الصلة اهتماماً يجعلها مستقلة فلا يخطر حضورها بالبال عند حظور الصلتين اللتين قبلها فلا جامع بينها وبينهما في الجامع الخيالي‏.‏ وتقدم الكلام على نظيره في سورة الرعد وغيرها فأعيد اسم الموصول لأن مصداقه هو فاعل جميعها‏.‏

والإنشاء‏:‏ الإحياء كما في قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ إذا شاء أنشره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وعن ابن عباس أنه أنكر على من قرأ ‏{‏كيف نَنْشُرها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏ بفتح النون وضم الشين وتلا ‏{‏ثم إذا شاء أَنْشَرَهُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 22‏]‏ فأصل الهمزة فيه للتعدية وفعله المجرد نشر بمعنى حَيِيَ، يقال‏:‏ نَشر الميتُ، برفع الميت قال الأعشى‏:‏

حتى يقول النّاس مما رأوا *** يا عَجَبَاً للميّتتِ النَاشِرِ

وأصل النشر بسْط ما كان مطوياً وتفرعت من ذلك معاني الإعادة والانتشار‏.‏

والنشر هنا مجاز لأن الإحياء للأرض مجاز، وزاده حسناً هنا أن يكون مقدمة لقوله‏:‏ ‏{‏كذلك تخرجون‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏فأنشرنا‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏ والميّت ضدّ الحي‏.‏ ووصف البلدة به مجاز شائع قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الأرض الميّتة أحييناها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وإنما وصفت البلدة وهي مؤنث بالميت وهو مُذكّر لكونه على زنة الوصف الذي أصله مَصدر نحو‏:‏ عَدْل وزَوْر فحسن تجريده من علامة التأنيث على أن الموصوف مجازي التأنيث‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك تخرجون‏}‏ معترضة بين المتعاطفين وهو استطراد بالاستدلاللِ على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من إثبات البعث، بمناسبة الاستدلال على تفرد الله بالإلهية بدلائل في بعضها دلالة على إمكان البعث وإبطال إحالتهم إياه‏.‏ والإشارة بذلك إلى الانتشار المأخوذ من ‏{‏فأنشرنا‏}‏، أي مثل ذلك الانتشار تُخرجون من الأرض بعد فنائكم، ووجه الشبه هو إحداث الحي بعد موته‏.‏ والمقصود من التشبيه إظهار إمكان المشبه كقول أبي الطيب‏:‏

فإن تفق الأنامَ وأنتَ منهم *** فإنَّ المِسك بعضُ دَممِ الغزال

وقرأ الجمهور ‏{‏تُخرجون‏}‏ بالبناء للنائب‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ‏{‏تَخرُجون‏}‏ بالبناء للفاعل والمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ‏(‏12‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا الانتقال من الاستدلال والامتنان بخلق وسائل الحياة إلى الاستدلال بخلق وسائل الاكتساب لصلاح المعاش، وذكر منها وسائل الإنتاج وأتبعها بوسائل الاكتساب بالأسفار للتجارة‏.‏ وإعادة اسم الموصول لما تقدم في نظيره آنفاً‏.‏

والأزواج‏:‏ جمع زوج، وهو كل ما يصير به الواحد ثانياً، فيطلق على كل منهما أنه زوج للآخر مثل الشفع‏.‏ وغلب الزوج على الذكر وأنثاه من الحيوان، ومنه ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏143‏)‏، وتوسع فيه فأطلق الزوج على الصنف ومنه قوله‏:‏ ‏{‏ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكلا الاطلاقين يصح أن يراد هنا، وفي أزواج الأنعام منافع بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ونتاجها‏.‏

ولما كان المتبادرُ من الأزواج بادئ النظر أزواجَ الأنعام وكان من أهمها عندهم الرواحل عطف عليها ما هو منها وسائل للتنقل برّاً وأدمج معها وسائل السفر بحراً‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من الفُلك والأنعام ما تركبون‏}‏ فالمراد ب ‏{‏ما تركبون‏}‏ بالنسبة إلى الأنعام هو الإبل لأنها وسيلة الأسفار قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآيةٌ لهم أنّا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41، 42‏]‏ وقد قالوا‏:‏ الإبلُ سفائن البر‏.‏

وجيء بفعل ‏{‏جَعل‏}‏ مراعاة لأن الفلك مصنوعة وليست مخلوقة، والأنعام قد عُرف أنها مخلوقة لشمول قوله‏:‏ ‏{‏خلَق الأزواج‏}‏ إياها‏.‏ ومعنى جَعل الله الفلكَ والأنعامَ مركوبة‏:‏ أنه خلق في الإنسان قوة التفكير التي ينساق بها إلى استعمال الموجودات في نفعه فاحتال كيف يصنع الفلك ويركب فيها واحتال كيف يَروض الأنعام ويركبها‏.‏

وقُدم الفلك على الأنعام لأنها لم يشملها لفظ الأزواج فذكرها ذكرُ نعمة أخرى ولو ذكر الأنعام لكان ذكره عقب الأزواج بمنزلة الإعادة‏.‏ فلما ذكر الفلك بعنوان كونها مركوباً عطف عليها الأنعام فصار ذكر الأنعام مترقباً للنفس لمناسبة جديدة، وهذا كقول امرئ القيس‏:‏

كأنيَ لم أركَبْ جواداً للذةٍ *** ولم أتَبطن كاعباً ذات خَلْخَال

ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْ *** لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال

إذ أعقب ذكر رُكوب الجواد بذكر تبطّن الكاعب للمناسبة، ولم يعقبه بقوله‏:‏ ولم أقل لخيلي كري كرة، لاختلاف حال الركوبين‏:‏ ركوب اللّذة وركوب الحَرب‏.‏

والركوب حقيقته‏:‏ اعتلاء الدابّة للسير، وأطلق على الحصول في الفُلك لتشبيههم الفُلك بالدابّة بجامع السير فركوب الدابة يتعدّى بنفسه وركوب الفلك يتعدّى ب ‏(‏في‏)‏ للفرق بين الأصيل واللاحق، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال اركبوا فيها‏}‏ في سورة هود ‏(‏41‏)‏‏.‏

و ‏{‏من الفلك والأنعام‏}‏ بيان لإبهام ‏{‏ما‏}‏ الموصولة في قوله‏:‏ ‏{‏ما تركبون‏}‏‏.‏ وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب، وحذفُ مثله كثير في الكلام‏.‏ وإذ قد كان مفعول ‏{‏تركبون‏}‏ هنا مبيَّناً بالفُلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر ب ‏(‏في‏)‏ فغلِّبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد، وحُذف العائد بناء على ذلك التغليب‏.‏

واستعمال فعل ‏{‏تركبون‏}‏ هنا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه‏.‏

والاستواء الاعتِلاء‏.‏ والظهورُ‏:‏ جمع ظَهر، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك، فهذا أيضاً من التغليب‏.‏ والمعنى‏:‏ على ظهوره وفي بطونه‏.‏ فضمير ‏{‏ظهوره‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما‏}‏ الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ‏.‏ ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرففِ ‏{‏على‏}‏ بنيت على أن للسفينة ظهراً قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقد جُعل قوله‏:‏ ‏{‏لتستووا على ظهوره‏}‏ توطئة وتمهيداً للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله‏:‏ ‏{‏ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه‏}‏ أي حينئذٍ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها‏.‏ وأجدر بعدم الذهول عنها، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان‏.‏

وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام‏.‏ وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفاً فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة‏.‏

وعطف على ‏{‏تذكروا نعمة ربّكم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا‏}‏، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة‏.‏

وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمناً على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي‏.‏ واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكراً لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا‏.‏ واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة‏.‏

والتسخير‏:‏ التذييل والتطويع‏.‏ وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحاً لسبح السفن على مائه، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك، ورصد مهابّ الرياح، ووضع القلوع والمجاذيف، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية‏.‏ ولهذا عقب بقوله‏:‏ ‏{‏وما كنّا له مُقْرِنين‏}‏ أي مطيقين، أي بمجرد القوة الجسدية، أي لولا التسخير المذكور، فجملة ‏{‏وما كُنَّا له مقرنين‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏لنا‏}‏ أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائماً مقام القوة‏.‏

والمُقرن‏:‏ المطيق، يقال‏:‏ أقرن، إذا أطاق، قال عمرو بن معديكرب‏:‏

لقد علم القبائل ما عُقَيل

لنا فِي النائبات بمُقْرِنينا

وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث‏.‏

وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالماً إلى أهله‏.‏

والانقلاب‏:‏ الرجوع إلى المكان الذي يفارقه‏.‏ والجملة معطوفة على جملة التنزيه عطف الخبر على الإنشاء‏.‏ وفي هذا تعريض بتوبيخ المشركين على كفران نعمة الله بالإشراك وبنسبة العجز عن الإحياء بعد الموت لأن المعنى‏:‏ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتشكروا بالقلب واللّسان فلم تفعلوا، ولملاحظة هذا المعنى أُكد الخبر‏.‏ وفيه تعريض بالمؤمنين بأن يقولوا هذه المقالة كما شكروا لله ما سخر لهم من الفلك والأنعام‏.‏ وفيه إشارة إلى أن حق المؤمن أن يكون في أحواله كلها ملاحظاً للحقائق العالية ناظراً لتقلبات الحياة نظر الحكماء الذين يستدلون ببسائط الأمور على عظيمها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

هذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9‏]‏ أي ولئن سألتهم عن خالق الأشياء ليعترفن به وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف جُزْءاً‏.‏

فالواو للعطف على جملة ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض‏.‏ ويجوز كونها للحال على معنى‏:‏ وقد جعلوا له من عباده جزءاً، ومعنى الحال تفيد تعجيباً منهم في تناقض آرائهم وأقوالهم وقلبهم الحقائقَ، وهي غبارة في الرأي تعرض للمقلدين في العقائد الضالّة لأنهم يلفقون عقائدهم من مختلف آراء الدُعاة فيجتمع للمقلد من آراء المختلفين في النظر ما لو اطلع كل واحد من المقتَدَيْنَ بهم على رأي غيره منهم لأبطله أو رجع عن الرأي المضادّ له‏.‏

فالمشركون مقرّون بأن الله خالق الأشياء كلّها ومع ذلك جعلوا له شركاء في الإلَهية، وكيف يستقيم أن يكون المخلوق إلها، وجعلوا لله بنات، والبنوة تقتضي المماثلة في الماهية، وكيف يستقيم أن يكون لخالق الأشياء كلّها بنات فهنّ لا محالة مخلوقات له فإنْ لم يكنّ مخلوقات لزم أن يكنّ موجودات بوجوده فكيف تكنّ بناته‏.‏ وإلى هذا التناقض الإشارة بقوله‏:‏ من عباده‏}‏ أي من مخلوقاته، أو ليست العبودية الحقة إلاّ عبودية المخلوق جزءاً، أي قطعة‏.‏

والجزء‏:‏ بعْض من كُلَ، والقطعة منْه‏.‏ والوَلَد كجزء من الوالد لأنه منفصل مِنه، ولذلك يقال للولد‏:‏ بَضْعة‏.‏ فهم جمعوا بين اعتقاد حدوث الملائكة وهو مقتضى أنها عباد الله وبين اعتقاد إلهيتها وهو مقتضى أنها بنات الله لأن البُنوة تقتضي المشاركة في الماهية‏.‏

ولما كانت عقيدة المشركين معروفة لهم ومعروفة للمسلمين كان المراد من الجزء‏:‏ البنات، لقول المشركين‏:‏ إن الملائكة بناتُ الله من سَرَوَاتتِ الجِنّ، أي أمهاتهم سَرَوَات الجنّ، أي شريفات الجنّ فسَرَوَات جمع سريّة‏.‏ وحكى القرطبي أن المُبرد قال‏:‏ الجزء ها هنا البنات، يقال‏:‏ أجزأت المرأة، إذا وَلدت أنثى‏.‏ وفي «اللّسان» عن الزجاج أنه قال‏:‏ أنشدت بيتاً في أن معنى جزء معنى الإناث ولا أدري البيْتَ أقديم أم مصنوع، وهو‏:‏

إنْ أجزأتْ حرةٌ يوماً فلا عجب *** قد تُجزئ الحرّة المِذْكَارُ أحياناً

وفي «تاج العروس»‏:‏ أن هذا البيت أنشده ثعلب، وفي «اللّسان» أنشد أبو حنيفة‏:‏

زُوِّجْتُها من بناتتِ الأوْس مُجْزِئَةً *** لِلعَوْسَج الرطْببِ في أبياتِها زَجَل

ونسبهُ الماوردي في تفسيره إلى أهل اللّغة‏.‏ وجزم صاحب «الكشاف» بأن هذا المعنى كَذب على العرب وأن البيتين مصنوعان‏.‏

والجعل هنا معناه‏:‏ الحكم على الشيء بوصفه حكماً لا مستند له فكأنه صنع باليد والصنع باليد يطلق عليه الجعل‏.‏

وجملة ‏{‏إن الإنسان لكفورٌ مبين‏}‏ تذييل يدل على استنكار ما زعموه بأنه كفر شديد‏.‏ والمراد ب ‏{‏الإنسان‏}‏ هؤلاء النّاس خاصة‏.‏

والمُبينُ‏:‏ المُوضِّح كفرَه في أقواله الصريحة في كفر نعمة الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ‏(‏16‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ للإضراب وهو هنا انتقالي لانتقال الكلام من إبطال معتقدهم بنوة الملائكة لله تعالى بما لزمه من انتقاص حقيقة الإلهية، إلى إبطاله بما يقتضيه من انتقاص ينافي الكمال الذي تقتضيه الإلهية‏.‏ والكلام بعد ‏{‏أم‏}‏ استفهام، وهو استفهام إنكاري كما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏وأصفاكم بالبنين‏}‏‏.‏ ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناءً إناثاً وهلاَّ جعلوها ذكوراً‏.‏ وليست لهم معذرة عن الفساد المنجرّ إلى معتقدهم بالطريقتين لأن الإبطال الأول نظري يقيني والإبطال الثاني جدليّ بديهي قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمةٌ ضيزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏ فهذه حجة ناهضة عليهم لاشتهارها بينهم‏.‏

ولما ادَّعت سَجَاححِ بنتُ الحارث النبوءة في بني تميم أيام الردة وكان قد ادّعى النبوءةَ قبلها مُسَيْلمةُ الحنفي، والأسود العَنْسي، وطُليحة بن خويلد الأسدي، قال عُطاردُ بن حاجب التميمي‏:‏

أضحت نبيئتُنا أنثى نُطيف بها *** وأصبحتْ أنبياء النّاس ذكرانا

وأوثر فعل ‏{‏اتّخذ‏}‏ هنا لأنه يشمل الاتخاذ بالولادة، أي بتكوين الانفصال عن ذات الله تعالى بالمزاوجة مع سَرَوات الجنّ، ويشمل ما هو دون ذلك وهو التبنّي فعَلَى كِلا الفَرضين يتوجه إنكارُ أن يكون ما هو لله أدْوَنَ مما هوَ لهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وقد أشار إلى هذا قوله‏:‏ ‏{‏وأصفاكم بالبنين‏}‏، فهذا ارتقاء في إبطال معتقدهم بإبطال فرض أن يكون الله تبنَّى الملائكة، سَدًّا على المشركين بابَ التأول والتنصللِ من فساد نسبتهم البناتتِ إلى الله، فلعلّهم يقولون‏:‏ ما أردنا إلا التبني، كما تنصلوا حين دمغتهم براهين بطلان إلهية الأصنام فقالوا‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وقالوا‏:‏ ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

واعلم أن ما تُؤذن به ‏{‏أم‏}‏ حيثما وقعتْ من تقدير استفهام بعدها هو هنا استفهام في معنى الإنكار وتسلط الإنكار على اتخاذ البنات مع عدم تقدم ذكر البنات لكوْننِ المعلوممِ من جعل المشْركين لله جزءاً أن المجعول جزءاً له هو الملائكة وأنهم يجعلون الملائكة إناثاً، فذلك معلوم من كلامهم‏.‏ وجملة ‏{‏وأصفاكم بالبنين‏}‏ في موضع الحال‏.‏

والنفي الحاصل من الاستفهام الإنكاري منصبّ إلى قيد الحال، فحصل إبطال اتخاذ الله البناتتِ بدليلين، لأن إعطاءَهم البنين واقع فنفي اقترانه باتخاذه لنفسه البنات يقتضي انتفاء اتخاذه البنات فالمقصود اقتران الإنكار بهذا القيد‏.‏ وبهذا يتضح أن الواو في جملة ‏{‏وأصفاكم‏}‏ ليست واو العطف لأن إنكار أن يكون أصفاهم بالبنين لا يقتضي نفي الأولاد الذكور عن الله تعالى‏.‏ والخطابُ في ‏{‏وأصفاكم‏}‏ موجه إلى الذين جعلوا له من عباده جزءاً، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الإنكار والتوبيخ أوقع عليهم لمواجهتهم به‏.‏

وتنكير ‏{‏بنات‏}‏ لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس‏.‏ وأما تعريف ‏{‏البنين‏}‏ باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله‏:‏

‏{‏الحمدُ لله‏}‏ في سورة الفاتحة ‏(‏2‏)‏‏.‏ والمقصود منه هنا الإشارة إلى المعروف عندهم المتنافَس في وجوده لديهم وتقدم عند قوله ‏{‏يهب لمن يشاء إناثاً ويَهَب لمن يشاء الذّكور‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏49‏)‏‏.‏

وتقديم ‏{‏البنات‏}‏ في الذكر على ‏{‏البنين‏}‏ لأن ذكرهن أهم هنا إذ هو الغرض المسوق له الكلام بخلاف مقام قوله‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربّكم بالبنين واتخذ من الملائكة إِناثاً‏}‏ في سورة الإسراءِ ‏(‏40‏)‏‏.‏ ولِمَا في التقديم من الردّ على المشركين في تحقيرهم البنات وتطيُّرِهم منهن مثل ما تقدم في سورة الشورى‏.‏

والإصفاء‏:‏ إعطاء الصفوة، وهي الخيار من شيء‏.‏

وجملة ‏{‏وإذا بُشِّر أحدهم‏}‏ يجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير النصب في ‏{‏وأصفاكم ربّكم بالبنين، ومقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب في قوله‏:‏ أحدهم‏}‏ فعدل عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة على طريق الالتفات ليكونوا محكياً حالهم إلى غيرهم تعجيباً من فساد مقالتهم وتشنيعاً بها إذ نسبوا لله بنات دون الذّكور وهو نقص، وكانوا ممن يكره البنات ويَحقِرهُنَّ فنسبَتها إلى الله مفض إلى الاستخفاف بجانب الإلهية‏.‏

والمعنى‏:‏ أأتّخذ مما يخلق بنات الله وأصفاكم بالبنين في حال أنكم إذا بُشّر أحدكم بما ضربه للرحمان مثلاً ظَلَّ وجهه مسودّاً‏.‏ ويجوز أن تكون اعتراضاً بين جملة ‏{‏أم اتخذ مما يَخْلُق بناتٍ‏}‏ وجملة ‏{‏أوَ مَنْ ينشأ في الحِلية‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 18‏]‏‏.‏

واستعمال البشارة هنا تهكّم بهم كقوله‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاببٍ أليمٍ‏}‏ ‏[‏الإنشقاق‏:‏ 2‏]‏ لأن البشارة إعلام بحصول أمر مسرّ‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بما ضرب للرحمان مثلاً‏}‏ موصولة، أي بُشر بالجنس الذي ضربه، أي جعله مثَلاً وشبهاً لله في الإلهية، وإذ جعلوا جنس الأنثى جزْءاً لله، أي منفصلاً منه فالمبشَّر به جنس الأنثى، والجنس لا يتعين‏.‏ فلا حاجة إلى تقدير بشر بمِثل ما ضربه للرحمان مثلاً‏.‏

والمَثَل‏:‏ الشبيه‏.‏

والضرْب‏:‏ الجعل والصنع، ومنه ضَرْب الدينار، وقولهم‏:‏ ضَرْبةُ لَازِببٍ، فَمَا صْدَقُ ‏{‏بما ضرب للرحمان مثلاً‏}‏ هو الإناث‏.‏

ومعنى ‏{‏ظَلّ‏}‏ هنا‏:‏ صار، فإن الأفعال الناقصة الخمسة المفتتح بها باب الأفعال الناقصة، تستعمل بمعنى صار‏.‏

واسوِداد الوجه من شدة الغضب والغيظ إذ يصعد الدم إلى الوجه فتصير حمرته إلى سواد، والمعنى‏:‏ تغيَّظ‏.‏

والكظيم‏:‏ الممسك، أي عن الكلام كرباً وحزناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

عطف إنكارٍ على إنكار، والواو عاطفة الجملة على الجملة وهي مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن للاستفهام الصدْر وأصل الترتيب‏:‏ وَأَمَنْ ينشأ‏.‏ وجملة الاستفهام معطوفة على الإنكار المقدّر بعدَ ‏{‏أم في قوله‏:‏ ‏{‏أم اتخذ ممّا يخلق بناتٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 16‏]‏، ولذلك يكون ‏{‏من ينشؤا في الحلية‏}‏ في محل نصب بفعل محذوف دلّ عليه فعل ‏{‏اتخذ في قوله‏:‏ ‏{‏أم اتخذ مما يخلق بنات‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أأتّخذ مَن ينشأ في الحلية الخ‏.‏ ولك أن تجعل ‏{‏من ينشؤا في الحلية‏}‏ بدلاً من قوله ‏{‏بنات بدلاً مطابقاً وأبرز العامل في البدل لتأكيد معنى الإنكار لا سيما وهو قد حذف من المبدل منه‏.‏ وإذ كان الإنكار إنما يتسلط على حكم الخبر كان موجب الإنكار الثاني مغايراً لموجب الإنكار الأول وإن كان الموصوف بما لوصفين اللذيْن تعلق بهما الإنكار موصوفاً واحداً وهو الأنثى‏.‏

ونَشْءُ الشيء في حالةٍ أن يكون ابتداءُ وجوده مقارناً لتلك الحالة فتكون للشيء بمنزلة الظرف‏.‏ ولذلك اجتلب حرف في‏}‏ الدّالة على الظرفية وإنما هي مستعارة لِمعنى المصاحبة والملابسة فمعنى ‏{‏من ينشؤا في الحلية‏}‏ مَن تُجعل له الحلية من أول أوقات كونه ولا تفارقُه، فإن البنت تُتَّخَذُ لها الحلية من أول عمرها وتستصحب في سائر أطوارها، وحسبك أنها شُقّت طرفا أذنيها لتجعل لها فيهما الأقراط بخلاف الصبي فلا يُحلّى بمثل ذلك وما يستدام له‏.‏ والنَّشْءُ في الحلية كناية عن الضعف عن مزاولة الصعاب بحسب الملازمة العُرفية فيه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن لا فائدة في اتخاذ الله بنات لا غناء لهن فلا يحصل له باتخاذها زيادة عِزّة، بناء على متعارفهم، فهذا احتجاج إقناعي خطابي‏.‏

و ‏{‏الخصام‏}‏ ظاهره‏:‏ المجادلة والمنازعة بالكلام والمحاجّة، فيكون المعنى‏:‏ أن المرأة لا تبلغ المقدرة على إبانة حجتها‏.‏ وعن قتادة‏:‏ ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتْها على نفسها، وعنه‏:‏ ‏{‏من ينشأ في الحلية‏}‏ هنّ الجواري يسفِّههن بذلك، وعلى هذا التفسير درج جميع المفسرين‏.‏

والمعنى عليه‏:‏ أنّهن غير قوادر على الانتصار بالقول فبلأولى لا يقدرْنَ على ما هو أشد من ذلك في الحرب، أي فلا جدوى لاتّخاذهن أولاداً‏.‏

ويجوز عندي‏:‏ أن يحمل الخصامُ على التقاتل والدّفاع باليد فإن الخصم يطلق على المُحارب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربّهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ فُسِّر بأنهم نفر من المسلمين مع نفر من المشركين تقاتلوا يوم بدر‏.‏

فمعنى ‏{‏غير مبين‏}‏ غيرُ محقق النصر‏.‏ قال بعض العرب وقد بُشر بولادة بنت‏:‏ «والله ما هي بِنِعْمَ الولدُ بزُّها بكاء ونصرها سرقة»‏.‏

والمقصود من هذا فضح معتقدهم الباطل وأنهم لا يحسنون إعمال الفكر في معتقداتهم وإلا لكانوا حين جعلوا لله بنوة أن لا يجعلوا له بنوة الإناث وهم يُعدّون الإناث مكروهات مستضعفات‏.‏ وتذكير ضمير ‏{‏وهو في الخصام‏}‏ مراعاة للفظ ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة‏.‏

و ‏{‏الحلية‏}‏‏:‏ اسم لما يُتحلّى به، أي يُتزين به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتستخرجون منه حلية تلبسونها‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَنشأ‏}‏ بفتح الياء وسكون النون‏.‏ وقرأه حفص وحمزة والكسائي ‏{‏يُنَشَّأُ‏}‏ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ومعناه‏:‏ يعوده على النشأة في الحلية ويربّى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

عَطف على ‏{‏وجعلوا له من عباده جزءاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏، أعيد ذلك مع تقدم ما يغني عنه من قوله‏:‏ ‏{‏أم اتخذَ مما يخلق بناتٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 16‏]‏ ليبْنَى عليه الإنكار عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَأُشهدوا خلقهم‏}‏ استقراء لإبطال مقالهم إذ أُبطل ابتداءً بمخالفته لدليل العقل وبمخالفته لما يجب لله من الكمال، فكمُل هنا إبطاله بأنه غير مستند لدليل الحس‏.‏

وجملة ‏{‏الذين هم عند الرحمن‏}‏ صفة الملائكة‏.‏ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏عند‏}‏ بعين فنون ودال مفتوحة والعندية عندية تشريف، أي الذين هم معدودون في حضرة القدس المقدسة بتقديس الله فهم يتلقون الأمر من الله بدون وساطة وهم دائبون على عبادته، فكأنهم في حضرة الله، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وله ما في السماوات والأرض ومَن عنده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏ ومِنْه قول النبي صلى الله عليه وسلم «تحاجَّ آدمُ وموسى عندَ الله عز وجل» الحديث، فالعندية مجاز والقرينة هي شأن من أضيف إليه ‏{‏عِنْد‏}‏‏.‏

وقرأ الباقون ‏{‏عِبَادُ الرحمن‏}‏ بعين وموحدة بعدها ألف ثم دال مضمومة على معنى‏:‏ الذين هم عباد مُكرمون، فالإضافة إلى اسم الرحمان تفيد تشريفهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل عبادٌ مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ والعبودية عبودية خاصة وهي عبودية القرب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكذّبوا عَبْدنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏أَأُشهدوا خلقهم‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏وجعلوا الملائكة‏}‏ وجملةِ ‏{‏وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقرأ نافع وأبو جعفر بهمزتين أولاهما مفتوحة والأخرى مضمومة وسكون شين ‏{‏أَأُشْهدوا‏}‏ مبنياً للنائب وكيفية أداء الهمزتين يَجري على حكم الهمزتين في قراءة نافع، وعلى هذه القراءة فالهمزة للاستفهام وهو للإنكار والتوبيخ‏.‏ وجيء بصيغة النائب عن الفاعل دون صيغة الفاعل لأن الفاعِل معلوم أنه الله تعالى لأن العالَم العلوي الذي كان فيه خلق الملائكة لا يحضره إلا مَن أمر الله بحضوره، ألا ترى إلى ما ورد في حديث الإسراء من قول كُلّ ملَك موكَّللٍ بباب من أبواب السماوات لِجبريل حين يستفتح ‏(‏من أنت‏؟‏ قال‏:‏ جبريل، قال‏:‏ ومن معك‏؟‏ قال‏:‏ محمد قال‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ مرحباً ونعم المجيء جاء وفتح له‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أأشهدهم الله خلق الملائكة وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وقرأه الباقون بهمزة مفتوحة فشين مفتوحة بصيغة الفعل، فالهمزة لاستفهام الإنكار دخلت على فعل شَهِد، أي ما حضروا خلق الملائكة على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 150‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏ستكتب شهادتهم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏أَأُشهدوا خلقهم‏}‏ لأن ذلك الإنكار يشتمل على الوعيد‏.‏ وهذا خبر مستعمل في التوعد‏.‏ وكتابة الشهادة كناية عن تحقق العقاب على كذبهم كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه في أُم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 4‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنكتب ما قالوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏‏.‏ والسِّين في ‏{‏ستكتب‏}‏ لتأكيد الوعيد‏.‏

والمراد بشهادتهم‏:‏ ادعاؤهم أن الملائكة إناثاً، وأطلق عليها شهادة تهكماً بهم‏.‏

والسؤال سؤال تهديد وإنذار بالعقاب وليس مما يتطلب عنه جواب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لتُسألُنّ يومئذٍ عن النعيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏، ومنه قول كعب بن زهير‏:‏

لَذاكَ أهيبُ عندي إذْ أُكلمه *** وقيل إنّك مَنْسُوبٌ ومَسْؤول

أي مسؤول عما سبق منك من التكذيب الذي هو معلوم للسائِل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولُنّ خلقهن العزيز العليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 9‏]‏، فإنها استدلال على وَحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غيرُ أهل لأن تُعْبَد‏.‏ فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيقولون‏:‏ لو شاء الله ما عبَدْنا الأصنام، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبي صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه‏.‏ فضمير الغيبة في ‏{‏ما عبدناهم‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب، وأقوام منهم يعبدون الجنّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل كانوا يعبدون الجنّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ كان نفر من العرب يعبدون الجنّ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مُلَيْح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حيّ من خزاعة‏.‏ فضمير جمع المذكر تغليب وليس عائداً إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثاً فلو أرادوا الملائكة لقالوا ما عبدناها أو ما عبدناهنّ‏.‏ وهذا هو الوجه في معنى الآية‏.‏ ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير ‏{‏الملائكة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة‏:‏ إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمَليْهما‏.‏ وعلى هذا التفسير درج صاحب «الكشاف» وهو بعيد من اللّفظ لتذكير الضمير كما علمت، ومن الواقع لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب‏.‏ وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بينَ المشيئة والإرادة، وبين الرضى والمحبة، فالعرب كانوا يقولون‏:‏ شاءَ الله وإن شاء الله، وقال طرفة‏:‏

فلو شاء ربّي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربّي كنت عَمرو بن مَرثد

فبنوا على ذلك تخليطاً بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء، وبين مشيئته التي قدَّرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدَر حين كوَّن العالم ونظَّمه وأقام له سنناً ونواميس لا تخرج عن مدارها إلاّ إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى‏.‏ فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله‏.‏ ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوث بها رسُلُه‏.‏

وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب‏.‏ وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمْنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏148‏)‏‏.‏

وهذا القول الصادر منهم ينتظم منه قياس استثنائي أن يقال‏:‏ لو شاء الله ما عبدنا الأصنام، بدليل أن الله هو المتصرف في شؤوننا وشؤون الخلائق لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فَقد شاء الله أن نعبد الأصنام‏.‏

وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى‏:‏ ما لهم بذلك من علم‏}‏ أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مُقدَّم القياس الاستثنائي وهو ‏{‏لو شاء الرحمان ما عبدناهم‏}‏ مبنيّ على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خلياً عن العلم وهو اليقين، فلذلك قال الله‏:‏ ‏{‏ما لهم بذلك‏}‏ أي بقولهم ذلك ‏{‏من علم‏}‏ بل هو من جهالة السفسطة واللّبس‏.‏ والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لو شاء الرحمن‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن هم إلا يخرصون‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ما لهم بذلك من علم‏}‏‏.‏

والخرص‏:‏ التوهم والظنّ الذي لا حجة فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏قتل الخرَّاصون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

إضراب انتقالي، عُطف على جملةِ ‏{‏ما لهم بذلك من علم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ فبعد أن نفى أن يكون قولُهم ‏{‏لو شاء الرحمان ما عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ مستنداً إلى حجة العقل، انتقل إلى نفي أن يكون مستنداً إلى حجة النقل عن إخبار العالِم بحقائق الأشياء التي هي من شؤونه‏.‏

واجتلب للإضراب حرف ‏{‏أم‏}‏ دون ‏(‏بَل‏)‏ لما تؤذن به ‏{‏أم‏}‏ من استفهام بعدها، وهو إنكاري‏.‏ والمعنى‏:‏ وما آتيناهم كتاباً من قبله‏.‏ وضمير ‏{‏من قبله‏}‏ عائد إلى القرآن المذكور في أوّل السورة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وإنه في أم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيمٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وفي هذا ثناء ثالث على القرآن ضمني لاقتضائه أن القرآن لا يأتي إلا بالحق الذي يُستمسك به‏.‏

وهذا تمهيد للتخلص إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمةٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ مزيدة لتوكيد معنى ‏(‏قبْل‏)‏‏.‏ والضمير المضاف إليه ‏(‏قَبْل‏)‏ ضمير القرآن ولم يتقدم له معاد في اللّفظ ولكنه ظاهر من دلالة قوله‏:‏ ‏{‏كتاباً‏}‏‏.‏

و ‏{‏مستمسكون‏}‏ مبالغة في ‏(‏ممسكون‏)‏ يقال‏:‏ أمسك بالشيء، إذا شدّ عليه يده، وهو مستعمل مجازاً في معنى الثبات على الشيء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستمسك بالذي أوحي إليك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 43‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذا إضراب إبطال عن الكلام السابق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم به مستمسكون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 21‏]‏ فهو إبطال للمنفي لا للنفي، أي ليس لهم علم فيما قالوه ولا نقل‏.‏ فكان هذا الكلام مسوقاً مساق الذمّ لهم إذ لم يقارنوا بين ما جاءهم به الرّسول وبين ما تلقوه من آبائهم فإن شأن العاقل أن يميّز ما يُلقَى إليه من الاختلاف ويعرضه على معيار الحق‏.‏

والأمة هنا بمعنى الملة والدّين، كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء ‏(‏92‏)‏ ‏{‏إنَّ هذه أمتكم أمةً واحدةً‏}‏ وقول النابغة‏:‏

وهل يأثمن ذو أُمة وهو طائع ***

أي ذو دِين‏.‏

و‏{‏على‏}‏ استعارة تبعية للملابسة والتمكن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على آثارهم‏}‏ خبرُ ‏(‏إنَّ‏)‏‏.‏ و‏{‏مهتدون‏}‏ خبر ثان‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏على آثارهم‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏مهتدون‏}‏ بتضمين ‏{‏مهتدون‏}‏ معنى سائرون، أي أنهم لا حجة لهم في عبادتهم الأصنام إلا تقليد آبائهم، وذلك ما يقولونه عند المحاجّة إذ لا حجة لهم غير ذلك‏.‏ وجعلوا اتّباعهم إياهم اهتداء لشدة غرورهم بأحوال آبائهم بحيث لا يتأملون في مصادفة أحوالهم للحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

جملة معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تمسك المشركين بدين آبائهم والإشارة إلى المذكور من قولهم‏:‏ ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏، أي ومثل قولِهم ذلك، قال المترفون من أهل القُرى المرسل إليهم الرسل من قبلك‏.‏

والواو للعطف أو للاعتراض وما الواو الاعتراضية في الحقيقة إلا تعطف الجملة المعترضة على الجملة التي قبلها عطفاً لفظياً‏.‏

والمقصود أن هذه شنشنة أهل الضلال من السابقين واللاحقين، قد استووا فيه كما استووا في مَثاره وهو النظر القاصر المخطئ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتواصوا به بل هم قومٌ طَاغُون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 53‏]‏، أي بل هم اشتركوا في سببه الباعث عليه وهو الطغيان‏.‏ ويتضمن هذا تسليةً للرّسول صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه، بأن الرّسل من قبله لَقُوا مثل ما لَقي‏.‏

وكاف التشبيه متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏قال مترفوها‏}‏‏.‏ وقدم على متعلَّقه للاهتمام بهذه المشابهة والتشويق لما يرد بعْدَ اسم الإشارة‏.‏

وجملة ‏{‏إلا قال مترفوها‏}‏ في موضع الحال لأن الاستثناء هنا من أحوال مقدّرة أي ما أرسلنا إلى أهل قرية في حاللٍ من أحوالهم إلا في حال قوللٍ قاله مترفوها‏:‏ إنا وجدنا آباءنا الخ‏.‏

والمترَفون‏:‏ جمع المُترف وهو الذي أُعطِي الترف، أي النعمة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وارجِعُوا إلى ما أُترفتم فيه‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏13‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم مثل قريش في الازدهاء بالنَّعمة التي هم فيها، أي في بطر نعمة الله عليهم‏.‏ فالتشبيه يقتضي أنهم مثل الأمم السالفة في سبب الازدهاء وهو ما هم فيه من نَعمة حتى نسوا احتياجهم إلى الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وذرْني والمكذبين أولي النَّعمة ومهّلهم قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقد جاء في حكاية قول المشركين الحاضرين وصفُهم أنفسَهم بأنهم مُهتدون بآثار آبائهم، وجاء في حكاية أقوال السابقين وصفهم أنفسَهم بأنهم بآبائهم مُقتدون، لأن أقوال السابقين كثيرة مختلفة يجمع مختلفها أنها اقتداء بآبائهم، فحكاية أقوالهم من قبيل حكاية القول بالمعنى، وحكاية القول بالمعنى طريقة في حكاية الأقوال كثر ورودها في القرآن وكلام العرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون‏}‏‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏قُلْ‏}‏ بصيغة فعل الأمر لِمفرد فيكون أمراً للرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يَقوله جواباً عن قول المشركين ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقرأ ابن عامر وحفص ‏{‏قال‏}‏ بصيغة فعل المضي المسند إلى المفرد الغائب فيكون الضمير عائداً إلى نذير الذين قالوا ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فحصل من القراءتين أن جميع الرّسل أجابوا أقوامهم بهذا الجواب، وعلى كلتا القراءتين جاء فعل ‏{‏قل‏}‏ أو ‏{‏قال‏}‏ مفصولاً غير معطوف لأنه واقع في مجال المحاورة كما تقدم غير مرة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور جئتكم‏}‏ بضمير تاء المتكلم‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏جئنَاكم‏}‏ بنون ضمير المتكلم المشارك وأبو جعفر من الذين قرأُوا ‏{‏قل‏}‏ بصيغة الأمر فيكون ضمير ‏{‏جئنَاكم‏}‏ عائداً للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطب بفعل ‏{‏قُل‏}‏ لتعظيمه صلى الله عليه وسلم من جانب ربّه تعالى الذي خاطبه بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏أولو‏}‏ عاطفة الكلام المأمور به على كلامهم، وهذا العطف مما يسمى عطف التلقين، ومنه قوله تعالى عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ والهمزة للاستفهام التقريري المشوببِ بالإنكار‏.‏ وقدمت على الواو لأجل التصدير‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ وصلية، و‏{‏لو‏}‏ الوصلية تقتضي المبالغة بنهاية مدلول شرطها كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في آل عمران ‏(‏91‏)‏، أي لو جئتكم بأهدى من دين آبائكم تبقون على دين آبائكم وتتركون ما هو أهدى‏.‏

والمقصود من الاستفهام تقريرهم على ذلك لاستدعائهم إلى النظر فيما اتبعوا فيه آباءهم لعل ما دعاهم إليه الرّسول أهدى منهم‏.‏ وصوغ اسم التفضيل من الهَدي إرخاء للعنان لهم ليتدبروا، نُزّل ما كان عليهم آباؤهم منزلة ما فيه شيء من الهُدى استنزالاً لطائر المخاطبين ليتصدّوا للنظر كقوله‏:‏ ‏{‏وإنّا أو إيّاكم لعلى هُدىً أو في ضلاللٍ مبينٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

‏{‏ءَابَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏‏.‏

بدل من جملة ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏، لأن ذلك يشتمل على معنى‏:‏ لا نتبعكم ونترك ما وجدنا عليه آباءنا، وضمير ‏{‏قالوا‏}‏ راجع إلى ‏{‏مترفوها‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏ لأن موقع جملة ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 25‏]‏ يعين أن هؤلاء القائلين وقع الانتقام منهم فلا يكون منهم المشركون الذين وقع تهديدهم بأولئك‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏ما أرسلتم به‏)‏ يجوز أن يكون حكاية لقولهم، فإطلاقهم اسم الإرسال على دعوة رُسلهم تهكم مثل قوله‏:‏ ‏{‏ما لهذا الرّسول يأكل الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ ويجوز أن يكون حكاية بالمعنى وإنما قالوا إنّا بما زعمتم أنكم مرسلون به، وما أرسلوا به توحيد الإله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 24‏]‏، أي انتقمنا منهم عقب تصريحهم بتكذيب الرّسل‏.‏ وهذا تهديد بالانتقام من الذين شابهوهم في مقالهم، وهم كفار قريش‏.‏

والانتقام افتعال من النَّقْم وهو المكافأة بالسوء، وصيغة الافتعال لمجرد المبالغة، يقال‏:‏ نَقَمَ كعلم وضَرَب، إذا كافأ على السوء بسوء، وفي المثل‏:‏ هو كالأرقم إن يُتْرَك يَلْقَم وإن يُقْتَل يَنقَم‏.‏ الأرقم‏:‏ ضرب من الحيات يعتقد العرب أنه من الجن فإنْ تركه المرء يتسور عليه فيلسعه ويقتله وإن قتله المرء انتقم بتأثيره فأمَات قاتله وهذا من أوهام العرب‏.‏

والمراد بالانتقام استئصالهم وانقراضهم‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏136‏)‏‏.‏ ولذلك فالنظر في قوله‏:‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ نظر التفكر والتأمل فيما قصّ الله على رسوله من أخبارهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين‏}‏ في سورة النمل ‏(‏27‏)‏، وليس نَظَرَ البصر إذ لم ير النبي حالة الانتقام فيهم‏.‏ ويجوز أن يكون الخطاب لغير معيَّن، أي لكل من يتأتى منه التأمل‏.‏

و ‏{‏كيف‏}‏ استفهام عن الحالة وهو قد علَّق فعل النظر عن مفعوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏(‏26‏)‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

لما ذكَّرهم الله بالأمم الماضية وشبه حالهم بحالهم ساق لهم أمثالاً في ذلك من مواقف الرسل مع أممهم منها قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه‏.‏ وابتدأ بذكر إبراهيم وقومه إبطالاً لقول المشركين‏:‏ ‏{‏إنا وجدْنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏، بأن أوْلى آبائهم بأن يقتدوا به هو أبوهم الذي يفتخرون بنسبته إبراهيم‏.‏

وجملة وإذ قال إبراهيم‏}‏ عطف على عموم الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذيرٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم‏}‏، وهو عطف الغرض على الغرض‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف متعلق بمحذوف، تقديره‏:‏ واذْكُر إذ قال إبراهيم، ونظائر هذا كثيرة في القرآن كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ واذكر زمان قول إبراهيم لأبيه وقومه قولاً صريحاً في التبرّؤ من عبادة الأصنام‏.‏ وخُصَّ أبو إبراهيم بالذكر قبلَ ذكر قومه وما هو إلا واحد منهم اهتماماً بذكره لأن براءة إبراهيم مما يَعبُد أبُوه أدَلُّ على تجنب عبادة الأصنام بحيث لا يتسامح فيها ولو كان الذي يعبدها أقربَ النّاس إلى موحّد الله بالعبادة مثل الأببِ، ولتكون حكاية كلام إبراهيم قدوة لإبطال قول المشركين ‏{‏وإنّا على آثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ أي فما كان لكم أن تقتدوا بآبائكم المشركين وهلا اقتديتم بأفضل آبائكم وهو إبراهيم‏.‏

والبَرَاء بفتح الباء مصدر بوزن الفَعال مثل الظَّماء والسّماع يخبر به ويوصف به في لغة أهل العالية وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة مما وراء مكّة وأما أهل نجد فيقولون بَريء‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذي فطرني‏}‏ استثناء من ‏(‏ما تعبدون‏)‏، و‏(‏ما‏)‏ موصولة أي من الذين تعبدونهم فإن قوم إبراهيم كانوا مشركين مثل مشركي العرب‏.‏ وقد بسطنا ذلك فيما تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتّخذ أصناماً آلهة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وفرع على هذا قوله‏:‏ ‏{‏فإنه سيهدين‏}‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏إنني براء مما تعبدون‏}‏ يتضمن معنى‏:‏ إنني اهتديت إلى بطلان عبادتكم الأصنام بهدي من الله‏.‏ وسين الاستقبال مؤذنة بأنه أخبرهم بأن هداية الله إياه قد تمكنت وتستمر في المستقبل، ويفهم أنها حاصلة الآن بفحوى الخطاب‏.‏

وتوكيد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ منظور فيه إلى حال أبيه وقومه لأنهم ينكرون أنه الآن على هدى فهم ينكرون أنه سيكون على هدى في المستقبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏إذ قال إبراهيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26‏]‏ أي أعلن تلك المقالة في قومه معاصريه وجعلها كلمة باقية في عقبه ينقلونها إلى معاصريهم من الأمم‏.‏ إذ أوصى بها بنيه وأن يوصوا بَنِيهم بها، قال تعالى في سورة البقرة ‏(‏131 132‏)‏ ‏{‏إذ قال لَه ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بَنِيَّ إن الله اصطفى لكم الدّين فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ فبتلك الوصية أبقى إبراهيم توحيد الله بالإلهية والعبادة في عقبه يبثونه في النّاس‏.‏ ولذلك قال يوسف لصاحبيه في السجن ‏{‏يا صاحبيَ السجن آربْاب متفرقون خير أم الله الواحد القهار‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏ وقال لهما ‏{‏إنّي تركتُ ملة قوممٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعتُ ملة آبائِيَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر النّاس لا يعلمون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37 40‏]‏‏.‏

فضمير الرفع في ‏{‏جعلها‏}‏ عائد إلى إبراهيم وهو الظاهر من السياق والمناسب لقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ ولأنه لم يتقدم اسم الجلالة ليعود عليه ضمير ‏{‏جعلها‏}‏‏.‏ وحكى في «الكشاف» إنه قيل‏:‏ الضمير عائد إلى الله وجزم به القرطبي وهو ظاهر كلام أبي بكر بن العربي‏.‏

والضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلها‏}‏ عائد إلى الكلام المتقدم‏.‏ وأنث الضمير لتأويل الكلام بالكلمة نظراً لوقوع مفعوله الثاني لفظ ‏{‏كلمة‏}‏ لأن الكلام يطلق عليه ‏{‏كلمة‏}‏ كقوله تعالى في سورة المؤمنين ‏(‏100‏)‏ ‏{‏إنها كلمةٌ هو قائلها‏}‏ أي قولَ الكافر ‏{‏رَبِّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تَركْتُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كبرت كلمةٌ تخرج من أفواههم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ وهي قولهم‏:‏ ‏{‏اتّخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوصى بها إبراهيم بنيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏، أي بقَوله‏:‏ ‏{‏أسلمت لربّ العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏ فَأعاد عليها ضمير التأنيث على تأويل ‏(‏الكلمة‏)‏‏.‏

واعلم أنه إنّما يقال للكلام كلمة إذا كان كلاماً سائراً على الألسنة متمثلاً به، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أصدق كلمة قالها شاعر كلمةُ لبيد‏:‏ ألاَ كلُ شيء ما خلا الله باطل ‏"‏ أو كان الكلام مجعولاً شعاراً كقولهم‏:‏ لا إله إلا الله كلمة الإسلام، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏»‏.‏

فالمعنى‏:‏ جعَل إبراهيم قوله‏:‏ ‏{‏إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏ شعاراً لعقبه، أي جعلها هي وما يرادفها قولاً باقياً في عقبه على مرّ الزمان فلا يخلو عقب إبراهيم من موحدين لله نابذين للأصنام‏.‏ وأشعر حرف الظرفية بأن هاته الكلمة لم تنقطع بين عقب إبراهيم دون أن تعمّ العقب، فإن أريد بالعقب مجموعُ أعقابه فإن كلمة التوحيد لم تنقطع من اليهود وانقطعت من العرب بعد أن تقلدوا عبادة الأصنام إلاّ من تَهوّد منهم أو تنصَّر، وإن أريد مِن كُل عقب فإن العرب لم يخلو من قائم بكلمة التوحيد مثل المتنَصِّرين منهم كالقبائل المتنصرة وورقة بن نوفل، ومثل المتحنفين كزيد بن عَمرو بن نُفيل، وأُمية بن أبي الصلت‏.‏

وذلك أن ‏{‏في‏}‏ ترد للتبعيض كما ذكرناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏5‏)‏‏.‏ وقال سَبْرة بن عَمرو الفقعسي من الحماسة‏:‏

ونَشْرب في أثمانها ونُقامر ***

والعقب‏:‏ الذرية الذين لا ينفصلون من أصلهم بأنثى، أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في عقبه بالوصاية عليها راجياً أنهم يرجعون، أي يتذكرون بها التوحيد إذا رانَ رَيْن على قلوبهم، أو استحسنوا عبادةَ الأصنام كما قال قوم موسى‏:‏ ‏{‏اجْعَل لنا إلها كما لهم آلهةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ فيهتدون بتلك الكلمة حين يضيق الزّمن عن بسط الحجة‏.‏ وهذا شأن الكلام الذي يجعل شعاراً لشيء فإنه يكون أصلاً موضوعاً قد تبيّن صدقه وإصابته، فاستحضاره يغني عن إعادة بسط الحجة له‏.‏

وجملة ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏وجعلها كلمة باقية في عقبه‏}‏ لأن جعله كلمة ‏{‏إنني براء مما تعبدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26‏]‏ باقية في عقبه، أراد منه مصالح لعقبه منها أنه رَجا بذلك أن يرجعوا إلى نبذ عبادة الأصنام إن فُتنوا بعبادتها أو يتذكروا بها الإقلاع عن عبادة الأصنام إن عبدوها، فمعنى الرجوع، العود إلى ما تدل عليه تلك الكلمة‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 48‏]‏، أي لعلهم يرجعون عن كفرهم‏.‏

فحرف ‏(‏لعل‏)‏ لإنشاء الرجاء، والرجاء هنا رَجاء إبراهيم لا محالة، فتعيّن أن يقدر معنى قوللٍ صادر من إبراهيم بإنشاء رجائه، بأن يقدر‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏، أو قائلاً‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏‏.‏ والرّجوع مستعار إلى تغيير اعتقاد طارئ باعتقاد سابق، شبه ترك الاعتقاد الطارئ والأخذ بالاعتقاد السابق برجوع المسافر إلى وطنه أو رجوع الساعي إلى بيته‏.‏

والمعنى‏:‏ يرجع كل من حاد عنها إليها، وهذا رجاؤه قد تحقق في بعض عقبه ولم يتحقق في بعضضٍ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريْتي قال لا ينال عهدي الظّالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ أي المشركين‏.‏ ولعل ممن تحقق فيه رجاء إبراهيم عمود نسب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يكتمون دينهم تقية من قومهم، وقد بسطتُ القول في هذا المعنى وفي أحوال أهل الفترة في هذه الآية في رسالة «طهارة النسب النبوي من النقائص»‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وجعلها كلمة باقيةً في عقبه‏}‏ إشعار بأن وحدانية الله كانت غير مجهولة للمشركين، فيتجه أن الدعوة إلى العلم بوجود الله ووحدانيته كانت بالغة لأكثر الأمم بما تناقلوه من أقوال الرّسل السابقين، ومن تلك الأمم العرب، فيتجه مؤاخذَةُ المشركين على الإشراك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أهملوا النظر فيما هو شائع بينهم أو تغافلوا عنه أو أعرضوا‏.‏ فيكون أهل الفترة مؤاخذين على نبذ التوحيد في الدّنيا ومعاقَبين عليه في الآخرة وعليه يُحمل ما ورد في صحاح الآثار من تعذيب عَمرو بن لُحيَ الذي سنّ عبادة الأصنام وما روي أن امرأ القيس حامل لواء الشعراء إلى النّار يوم القيامة وغير ذلك‏.‏ وهذا الذي يناسب أن يكون نظر إليه أهل السنة الذين يقولون‏:‏ إن معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل وهو المشهور عن الأشعري، والذين يقولون منهم‏:‏ إن المشركين من أهل الفترة مخلَّدون في النّار على الشرك‏.‏ وأما الذين قالوا بأن معرفة الله واجبة عقلاً وهو قول جميع المَاتريدية وبعض الشافعية فلا إشكال على قولهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

إضراب عن قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏، وهو إضراب إبطال، أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم من رجوع بعض عقبه إلى الكلمة التي أوصاهم برعيها‏.‏ فإن أقدم أمة من عقبه لم يرجعوا إلى كلمته، وهؤلاء هم العرب الذين أشركوا وعبدوا الأصنام‏.‏

وبعدَ ‏{‏بل‏}‏ كلام محذوف دلّ عليه الإبطال وما بعد الإبطاللِ، وتقديرُ المحذوف‏:‏ بل لم يرجع هؤلاء وآباؤهم الأولون إلى التوحيد ولم يتبرأوا من عبَادة الأصنام ولا أخذوا بوصاية إبراهيم‏.‏

وجملة ‏{‏مَتَّعتُ هؤلاء وآباءهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لسائل يسأل عما عاملهم الله به جزاء على تفريطهم في وصاية إبراهيم وهلا استأصلهم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23 25‏]‏، فأجيب بأن الله متعهم بالبقاء إلى أن يجيئهم رسول بالحق وذلك لحكمة علمها الله يرتبط بها وجود العرب زمناً طويلاً بدون رسول، وتأخُّرُ مجيء الرّسول إلى الإبان الذي ظهر فيه‏.‏

وبهذا الاستئناف حصل التخلص إلى ما بدا من المشركين بعد مجيء الرّسول صلى الله عليه وسلم من فظيع توغلهم في الإعراض عن التوحيد الذي كان عليه أبوهم فكان موقع ‏{‏بل‏}‏ في هذه الآية أبلغ من موقعها في قول لبيد‏:‏

بل ما تذكر من نوارَ وقد نأت *** وتَقَطعت أسبابُها ورمَامها

إذ كان انتقاله اقتضاباً وكان هنا تخلصاً حَسناً‏.‏

و ‏{‏هؤلاء‏}‏ إشارة إلى غير مذكور في الكلام، وقد استقريْتُ أن مصطلح القرآن أن يريد بمثله مشركي العرب، ولم أر من اهتدى للتنبيه عليه، وقد قدّمتهُ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏41‏)‏ وفي مواضع أخرى‏.‏

والمراد بآبائهم آباؤهم الذين سنّوا عبادة الأصنام مثل عَمْرو بن لُحَيِّ والذين عبدوها من بعده‏.‏ وتمتيع آبائهم تمهيد لتمتِيع هؤلاء، ولذلك كانت غاية التمتيع مجيءَ الرّسول فإن مجيئه لهؤلاء‏.‏ والتمتيع هنا التمتيع بالإمهال وعدم الاستئصال كما تدلّ عليه الغاية في قوله‏:‏ ‏{‏حتى جاءهم الحق ورسول مبين‏}‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏الحق‏}‏ القرآن كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 30‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وهذه الآية ثناء راجع على القرآن متصل بالثناء عليه الذي افتتحت به السورة‏.‏

فإنه لما جاء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم انتهى التمتيع وأُخذوا بالعذاب تدريجاً إلى أن كان عذاب يوم بدر ويوم حنين، وهدى الله للإسلام من بقي يومَ فتح مكة وأيامَ الوفود‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأممٌ سنمتعهم ثم يمسهم منا عذابٌ أليمٌ‏}‏ في سورة هود ‏(‏48‏)‏‏.‏

والحق الذي جاءهم هو‏:‏ القرآن، والرّسول المبين‏:‏ محمد ووصفه ب مبين‏}‏ لأنه أوضَحَ الهُدى ونصبَ الأدلةَ وجاء بأفصح كلام‏.‏ فالإبانة راجعة إلى معاني دينه وألفاظ كتابه‏.‏ والحكمة في ذلك أن الله أراد أن يشرف هذا الفريق من عقب إبراهيم بالانتشال من أوحال الشرك والضلال إلى مناهج الإيمان والإسلام واتباع أفضل الرّسل وأفضل الشرائع، فيجبرَ لأمَّة من عَقِب إبراهيم ما فرطوا فيه من الاقتداء بأبيهم حتى يكمل لدعوته شرف الاستجابة‏.‏

والمقصود من هذا زيادة الإمهال لهم لعلهم يتذكرون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم فقد جاءكم بيّنةٌ من ربّكم وهدىً ورحمةٌ فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155 157‏]‏‏.‏

ويستروح من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلها كلمة باقية في عقبه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وآباءهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28، 29‏]‏ أنّ آباء النبي صلى الله عليه وسلم في عمود نسبه لم يكونوا مضمرين الشركَ وأنهم بعضُ من عقب إبراهيم الذين بقيت كلمته فيهم ولم يجهروا بمخالفة قومهم اتقاءَ الفتنة‏.‏ ولا عجب في ذلك فإن تغيير المنكر إنّما وجب بالشرع ولم يكن لديهم شرع‏.‏